موضوع الرسوم الدنماركية المسيئة لنبي الإسلام مرشح لأن يكون مصدراً لأزمة جديدة مع الإسلامي. تفجر غضب الجماهير العريضة على نحو قد يصعب السيطرة عليه خصوصاً إزاء تعنت الحكومة الدنماركية واستمرار تبريرها لإعادة نشر الرسوم، وادعائها بأن نشر 17 صحيفة لتلك الرسوم المهينة ليس سوى رد فعل لما تردد عن وجود مخطط أعلن عنه عدد من المسلمين لقتل أحد الرسامين. وهو التصريح الذي نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» في تاريخ 23 فبراير الجاري على لسان وزير خارجية الدنمارك، بيير ستينج مولر، عقب اجتماعه مع لجنة السياسة الخارجية في البرلمان، وقد ادعى الوزير في التصريح المنشور أن حكومة بلاده على اتصال مستمر مع الحكومات الإسلامية والقادة الروحيين بهذا الخصوص وأعرب عن اعتقاده بأن تلك الجهات متفهمة للموقف.
ولا أعرف ما هي الجهات في العالم الإسلامي التي تفهمت موقف حكومة الدنمارك، كما لا أعرف من هم القادة الروحيون الذين قصدهم الوزير، لكن الذي أعرفه أن العديد من الحكومات العربية والإسلامية أعربت عن استيائها من ذلك الموقف وحذرت من عواقب استمرار الحملة في الإعلام الدنماركي، وما أعرفه أيضاً أنه ما من رمز أو مؤسسة إسلامية يمكن أن تمرر ما يجري أو تسكت عليه بدعوى تفهم موقف حكومة الدنمارك، والرسالة الوحيدة التي نتلقاها من تصريح وزير الخارجية المذكور أنه غير عابئ بالأصداء الحاصلة في العالم الإسلامي، وأنه ليس لديه تحفظ على إعادة نشر الرسوم، بدليل أنه يبررها ويقلل من شأنها، حيث قال إنها رد فعل لحكاية مخطط قتل أحد الرسامين الذي تورط فيه نفر من مسلمي الدنمارك. وهو تبرير متهافت وساذج لا يتوقع صدوره عن وزير للخارجية، لأن حماقة ثلاثة من الشبان المسلمين، إذا ثبتت، لا تسوغ إهانة عقائد ومقدسات مليار و300 مليون مسلم.
بطبيعة الحال فإن ما نسب إلى هؤلاء الشبان لا يدافع عنه أحد، ويدينه كل مسلم عاقل ولا خلاف على حق حكومة الدنمارك في أن تحاكمهم أمام القضاء على ما تورطوا فيه، لكن ليس من حق أحد في الدنمارك، إعلاما كان أم حكومة، أن يحاكم المسلمين جميعا جراء ذلك، أو أن يتذرع به لتجريح عقائد المسلمين وإهانة نبيهم. ربما لا تستطيع حكومة الدنمارك أن توقف نشر الرسوم في الصحف، لكنها تستطيع وبكل تأكيد أن تتبنى موقفاً نزيها يرفض إهانة عقائد المسلمين ويتحفظ على مبدأ الطعن في مقدساتهم. لكن ذلك لم يحدث للأسف، وهذا كلام وزير الخارجية يبرر ما يحدث ولا يسجل أي تحفظ عليه، والوزير في هذه الحالة لا يعبر عن رأيه الخاص ولا رأي وزارته بطبيعة الحال، لأننا نفهم أن هذا هو رأي الحكومة التي لم نعرف عنها أنها عبرت عن مشاعر تقدير أو مودة للمسلمين، ولم نلمس منها أنها حاولت أن تمتص غضبهم أو تحتويه. لا غرابة: الأمر كذلك في إقدام المكتبة الوطنية في أوسلو على شراء أصول الرسوم التي أهانت نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام بمبالغ باهظة.. حيث ضمتها إلى مقتنياتها باعتبارها جزءا من التراث الدنماركي. أيضا لم يكن غريبا في هذه الأجواء المتحاملة على الإسلام والمسلمين أن يبث التليفزيون الدنماركي في وقت سابق شريطا لبعض الشبان في معسكر صيفي حفل بالسخرية من نبي الإسلام وعقائد المسلمين.. ولم تكن المشكلة فقط في ما صدر عن أولئك الشبان من إهانات وبذاءات، لكنها كانت في بث الشريط على التلفزيون الرسمي للبلد.
في هذه الأجواء الداكنة والمسكونة بالتوتر أصدر الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلي، بيانا اعتبر فيه أن إعادة نشر الرسوم المسيئة لنبي الإسلام هي بمثابة تحريض على كراهية المسلمين في الدنمارك وفي أنحاء العالم. ودعا الحكومة الدنماركية إلى اتخاذ موقف صريح تتحمل بمقتضاه المسؤولية الأخلاقية إزاء حماية مواطنيها في الاستسلام لدعوات التعصب وإشاعة روح الكراهية، واستند في ذلك إلى نص المعاهدة الدولية للحقوق المدنية والسياسية، التي صدرت في العام 1996م، وشددت على حظر كل أشكال التحريض على الكراهية الدينية. إذ نصت الفقرة الثانية في مادتها العشرين على «أنه يجب منع أي تحريض على التعصب القومي أو العرقي أو الديني، بشكل يحرض على التمييز أو العداوة أو العنف بمقتضى القانون».
قال البيان «إنه من غير المفهوم أن تقدم وسائل الإعلام الدنماركية على إعادة نشر الرسوم الإثني عشر المسيئة وهي تعلم وتدرك أنها تمس مشاعر المسلمين الدنماركيين، ومشاعر مليار وثلاثمائة مليون مسلم، لا صلة لهم بقضية جنائية محلية تورط فيها ثلاثة أشخاص فقط. وهؤلاء لا يمثلون مسلمي الدنمارك ولا مسلمي العالم. كما أعرب البيان عن قلقه وأسفه لأن وسائل الإعلام الدنماركية تعاملت مع المسألة بطريقة عبثية وغير مسؤولة، في حين أن المجتمع الدولي من خلال مختلف المنابر والمبادرات يسعى إلى تعزيز قيم الاحترام المتبادل والتسامح والتعايش السلمي».
خلال الأسابيع الأخيرة سئلت أكثر من مرة: لماذا يكرهوننا ولا يترددون في إهانة مقدساتنا ومشاعرنا الدينية؟ كان ردى: إننا لا نستطيع أن نحيل الأمر إلى سبب واحد.
كما أننا لا نستطيع أن نقطع بأن الكراهية هي السبب الوحيد، ذلك أني أزعم أن الجهل بالإسلام والمسلمين، والتأثر بالصور النمطية التي يروج لها الإعلام، هما السبب الأول. ولعلك لاحظت ما نشرته «الشرق الأوسط» عن نتائج استطلاع أجري في الدنمارك أشارت إلى أن 50 % من الناس لا يعرفون لماذا يشعر المسلمون بالإهانة لتجريح نبيهم، وليست حاضرة في أذهانهم مكانته عليه الصلاة والسلام في نفوس المسلمين. وإضافة إلى الجهل فالثابت أن الثقافة الغربية التقليدية لا تكن ودا للإسلام والمسلمين، والموسوعات والمراجع الثقافية حافلة بالإشارات المنفرة من الاثنين، ما يعني أن المواطن الغربي العادي لديه استعداد لإساءة الظن بالمسلمين، وهذا الاستعداد يغذيه الإعلام فيشيع البغض والجفوة إزاءهم.
ثمة سبب ثالث يتمثل في إطلاق مفهوم الحرية التي لا تعرف حدودا ولا قداسة ولا سقفا من أي نوع، وهذا المفهوم يسوغ للبعض أن ينتهكوا كل الحرمات، وأن يذهبوا إلى أبعد مدى ممكن في الاستسلام للنزوات والشبهات.
وبطيعة الحال لا يخلو الأمر من محاولات للدس والوقيعة، تمارسها العناصر صاحبة المصلحة المتطرفة والموالية للصهيونية، وبعض هؤلاء ضد المسلمين في الدنمارك، ليس لأنهم مسلمون، ولكن لأنهم وافدون وأجانب، يتصورون أن وجودهم من أسباب انتشار البطالة في بلادهم. ثمة عامل آخر لا نستطيع أن نتجاهله، وهو أنهم في تلك البلاد ينظرون باستخفاف وربما بازدراء للعالم العربي والإسلامي، الذي لم تستطع دوله أن تثبت حضورا فاعلا في الساحة الدولية، لا على صعيد النموذج الذي تقدمه، ولا على صعيد الثقل السياسي الذي يفترض أن تمثله.
أيا كانت الأسباب والدوافع، فنحن أمام أزمة متصاعدة وخارجة عن نطاق السيطرة، خصوصا أن الحكومة الدنماركية غير مستعدة لاتخاذ موقف يعبر عن التحفظ على موقف وسائل الإعلام هناك، كما ذكرت قبل قليل. فضلا عن أنها في خطابها الموجه إلى العالم العربي والإسلامي بخصوص هذا الموضوع تلجأ إلى التبرير والمراوغة.
ما العمل إذن؟ لا نستطيع أن نلتزم الصمت إزاء ما يجري، ولا ينبغي أن يكون هناك رد فعل يتسم بالتهور والعنف. ولست أحبذ فكرة إرسال الوفود وإلقاء المحاضرات لتحسين صورة الإسلام. وهو أسلوب ثبت فشله، ولا يبقى بعد ذلك سوى حل من شقين، الأول أن تتوافق الدول الإسلامية على استصدار قانون من البرلمان الأوروبي يحرم الازدراء بالأديان. لأن بيانات وقرارات عدة صدرت بهذا المعنى عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس حقوق الإنسان، لكنها افتقدت قوة الإلزام وآلية التنفيذ. وإلى أن يتحقق ذلك فليس أمام الشعوب العربية إلا أن تعلن عن مقاطعتها للبضائع الدنماركية، لأنهم إذا كانوا قد تذرعوا هناك بحرية التعبير، فمن حقنا أن نمارس حريتنا في أن نشتري ما نشاء ونعرض من جانبنا عن بضاعة الذين يصرون على إهانة عقائدنا والازدراء بنبينا عليه الصلاة والسلام.
إن الهولنديين تجاوبوا مع منظمة المؤتمر الإسلامي وتحفظوا على إنتاج فيلم يسيء إلى القرآن، وكذلك فعل السويسريون إزاء حظر منارات المساجد في بلادهم. أما الدنماركيون فهم بحاجة إلى رسالة قوية تذكرهم بأن الاستمرار في إهانة مقدسات المسلمين لن يمر بلا ثمن. وشعوبنا قادرة على أن تجبرهم على دفع ذلك الثمن.. فهل من مبارز؟